تصعب اقامة الدولة الحضارية الحديثة، كما هو الحال بالنسبة للاسلام والديمقراطية وغيرهما من المباديء الراقية، في مجتمع متخلف، يعاني من خلل حاد في المركب الحضاري الذي محوره الانسان والطبيعة.
ولذلك ينبغي التمهيد لاقامة الدولة الحضارية الحديثة، كما هو الحال بالنسبة للاسلام، بمعالجة التخلف عن طريق تغيير المحتوى الداخلي للانسان اولا. والمحتوى الداخلي يتألف من الصورة المستقبلية للحياة من جهة، ومن ارادة التغيير والتحرك نحو هذه الصورة من جهة ثانية. ولهذا نقول ان المستقبل هو الذي يحرّك الحاضر، في الرؤية الحضارية للتاريخ، وليس الحاضر (الرؤية البليدة) او الماضي (الرؤية التكرارية).
وبالامكان الاستفادة من التجربة النبوية الاسلامية في هذا المجال. تولت الايات القرانية التي نزلت في مكة معالجة التخلف الحضاري في المجتمع المكي انذاك ونظرته الى الكون والحياة والانسان والمعرفة، وابتدأت ذلك كله بكلمة “اقرأ”، ثم “نون والقلم وما يسطرون”. وغير ذلك مما له علاقة مباشرة او غير مباشرة ببناء الرؤية الحضارية.
الدولة الحضارية الحديثة رؤية مستقبلية تقوم على عدة مرتكزات منها: المواطنة، الديمقراطية، سيادة القانون، المؤسسات الفاعلة، والعلم الحديث. واي خلل في نظرة او سلوك الفرد او المجتمع او الدولة الى هذه المرتكزات يؤدي الى اعاقة قيام الدولة الحضارية الحديثة، واقامة دول، او انظمة حكم متخلفة، كالنظام الدكتاتوري (كما في زمن صدام)، او النظام الاوليجارشي (كالنظام الحالي)، وهي انظمة تتناقض مع النظام الحضاري الديمقراطي المؤسساتي الدستوري الحديث.
يناقض التخلفُ المواطنةَ. المواطنة هي الاساس الاول للدولة الحضارية الحديث حيث تقوم علاقة قانونية مباشرة بين المواطن والدولة على اساس الشراكة في الوطن ومنظومة الحقوق والواجبات. لا يحتاج المواطن الى وسائط فرعية بينه وبين الدولة؛ لكن التخلف يحيل المواطن الى المكون الفرعي كالقومية والطائفية والعشائرية وغير ذلك. وينعكس ذلك على السلوك الانتخابي للمواطن حيث يضطر الى منح صوته لدوافع فئوية.
ويتناقض التخلف مع الديمقراطية. تمثل الديمقراطية الاساس الثاني للدولة الحضارية الحديثة حيث يتم تداول السلطة سلميا و تتغير الحكومات بدون استخدام العنف واراقة الدماء وحيث يتمتع المواطن بالحريات المدنية والسياسية، وتجرى الانتخابات النزيهة.
ويتناقض التخلف مع سيادة القانون. ويمثل القانون الاساس الثالث للدولة الحضارية الحديثة بوصفه من شروط االانتقال من الحالة البدائية للمجتمع (شريعة الغاب) الى الحالة الحضارية حيث يجسد القانون مرجعية المجتمع في العقاب والثواب وفض المنازعات وحيث تتولى الدولة تطبيق القانون وليس الافراد كل على هواه.
ويتناقص التخلف مع المؤسسات التي تمثل الاساس الرابع في الدولة الحضارية الحديثة والتي تجسد الانماط السلوكية المستقرة في الدولة ووعاء خبرة المجتمع وتراكمها.
ويتناقض التخلف مع العلم الحديث، وهو الاساس الخامس للدولة الحضارية الحديثة بل شرط حداثتها. والتخلف عبارة عن جهل وخرافات وتقاليد بالية واحكام مسبقة وتحجر عقلي وجمود فكري. وهذا كله من معيقات قيام الدولة الحضارية الحديثة.
في الدولة الحضارية الحديثة تكون المواطنة وحدة بناء، والديمقراطية طريقة حكم وحياة، والمؤسسات اسلوب عمل ونشاط، و يطبق القانون على الجميع، وتجري مواكبة العلم الحديث والاستفادة من انجازاته في تنظيم المجتمع وبناء الدولة.
وهذا مما لا يمكن مواكبته في مجتمع متخلف حيث تسود فكرة المكون، والطائفية والعرقية والعشائرية، والتفرد بالسلطة بهذا الشكل او ذاك، وتنعدم المناقشات العامة، و تضعف سلطة القانون، وتهمش المؤسسات، وينتشر الجهل والامية والخرافات، والتقليد .. الخ.
واذاً، يتعين قبل قيام الدولة الحضارية الحديثة، ظهور شخصيات فكرية وثقافية ودينية متنورة، وحركات اجتماعية متحضرة، تأخذ على عاتقها محاربة التخلف، ومكافحته، ونشر الثقافة الحضارية والتربية الحضارية بحدها الادنى، قبل قيام حكومة حضارية تأخذ على عاتقها بعد ذلك اتمام عملية التغيير الحضاري من خلال التشريعات والقوانين والتربية المدرسية وصولا الى بناء المجتمع المتحضر والدولة الحضارية الحديثة.
#الدولة_الحضارية_الحديثة
محمد عبد الجبار الشبوط