في الاعتراف السياسي: الرسالة الأخيرة إلى مصطفى الكاظمي

اراء
27 يوليو 2020wait... مشاهدة
في الاعتراف السياسي: الرسالة الأخيرة إلى مصطفى الكاظمي
علي وجيه

كتب : علي وجيه
عزيزي أبا هيا، الصديق منذ عام 2013، وحتى إصابة متظاهر قبل ساعتين ونصف في “التحرير”، تحيّة طيبة..
دوماً ما يُوجّه لنا نقدٌ، نحن الشعراء، بأننا لا نُجيد السياسة، حتى إن درسناها، وربما لا نُجيدُ حتى الإعلام، حتى إن مارسناه، لأن هناك لوثةً في دواخلنا، لوثةً تجعلُ العاطفة تلعبُ بنا، لدرجة أن تجد شعراء يلمّعون مسدّس القاتل، أو شعراء يرمون أنفسهم أمام القاتل، لأجل رأي.
أكتبُ الآن، وأنا أستقبلُ فيديوهات الذين قُمعوا قبل ساعة، في التحرير، بفيديوهات لا تختلفُ أبداً عمّا كنا نستقبلها في تشرين، أيّام حكومة القنّاصين، عبد المهدي وزملائه، الذي وللمفارقة، كان صديقاً أيضاً، وفُصِمت عروةُ صداقتِنا في اللحظة التي سقط فيها محمّد حبيب الساعدي، شهيد التحرير الأول، في السادسة عصراً في الأول من تشرين.
أعلم تمام العلم، أنّكَ لستَ قامعاً، ولم تُطلِق النار أو توجّه بذلك، لكن الشباب سقطوا اليوم، وأُصيبوا، بذات الرصاص الحيّ، وذات الدخانيات، التي سقطوا بها طيلةَ أشهر بعبد المهدي، أنا وأنتَ تعرف أن عبد المهدي ليس قامعاً، لكنْ: كلاكما القائد العام للقوات المسلّحة.
الأمرُ لا يتعلّقُ بمَن سقطوا اليوم فقط، يتعلّقُ بسلسلة خيبات كبيرة، ولا أعلمُ هل علّقتُ آمالاً أكثر من اللازم على هذه الحكومة؟ التي يُديرها صديقٌ، وطاقمُهُ أصدقاء، وجمهورها أصدقاء؟
الأمر لا يتعلقُ حتى بالأصدقاء، أو ربما: يتعلّقُ بهم أكثر من اللازم!
هل تذكرُ لقاءنا الأول؟ أنا وأنت؟ كان في ظهيرةٍ حارةٍ عام 2013، وقفنا أنا وأنتَ ومازن لطيف، صديقنا المغيّب، وتحدثنا طويلاً عن العمارة، ومحمّد مكية، قبل أن تكونَ على جهاز المخابرات لوقت طويل..
مازن الذي لا نعرفُ أين هو الآن..
كنتُ أعقدُ عليكَ الأمل تلو الآخر، ربما لمعرفتي أنّك لستَ إسلامياً، لستَ راديكالياً، وتبحثُ عن المشترك والحلّ السياسي، لكن أن يصل الأمر حتى تهشّمِ جمجمة هشام، هشامنا، وتمرّ أيامٌ كثيرةٌ، دون أن نعرف القاتل؟
ماذا عن توفيق التميمي؟ وماذا عن الأخطاء الأخرى؟!
حتى اللحظة، لا أفهمُ سبب التصدّي لمهمّة، دون أن تُملأ التفاصيل كما هي، ما معنى عمليّة البو عيثة؟ وما المكسب؟ هل تعلم أنّ صورتي ذات يوم، ضُربت بعلامة أكس في التحرير، التي وضعتُ حياتي في الخطر لأجل مَن صرخوا بها، وما آذاني الأمر قدر رؤية صورتك تحت أقدام المُعتقلين قبل هذه الحادثة بيومين؟!
هل لديك فكرة، عن الأمل الذي ارتفع؟ الذي تحطّم وسقط من أعلى المطعم التركي، وأنا أراك وقد قرّبتَ كلّ مَن ثرد بدم التشرينيين؟ هناك في مكتبك مَن كان مخبراً رسمياً، وسبباً باعتقال هؤلاء!
ثم برّبك، كيف يمكن أن تقنعني وأنت تضع موفق الربيعي بقربك؟
خيباتُ الأمل كبيرة، يا أبا هيا، ومشكلةُ شخصيّةٍ مثلك، هو أن أصدقاءه بالغالب هم ذوو عقلٍ نقديّ، لسنا قطعاناً، ولسنا جمهوراً دينياً، قد نرتضي المناورات بكل شيء، لكن بالله عليك، أما جرحتك ملامحُ أبناء هشام؟
أتخيّل، وأنا من الذين حُرّض عليهم مثل هشام، والبرقيات الأمنية تؤكد أن اغتيالاتٍ يُمكن أن تطالني، وتطال أشباهنا المساكين من “الجالية العراقية في العراق”، أقولُ: أتخيّلُ أن جمجمتي تتحطّم، بكاتم صوت، في مكانٍ ما، أتخيّلُ الآن كيف سيلتقطُ المبدع جمال بنجويني صورتك وأنتَ تضع يدك على رأس أطفالي، ثمّ ستسمّي شارعاً باسمي، ياللكرم! وقاتلي يمرحُ على درّاجته النارية، القاتل الذي بإمكان أبطال المخابرات إيجاده بنصف ساعة! وكلمة “أبطال” أعنيها هنا، ولا أُطلِقها تندّراً، ثم ستؤبنني بتغريدةٍ ملؤها أخطاء إملائية، لأنني حينها سأكون ميتاً، ولن أصححها كما صححتُ وحرّرتُ كلّ حرفٍ تفوهتَ به، منذ يوم التولّي.
هل تعلم، أنني سألتُ مكتبك عن “جدّية” المعلومات المتعلقة باغتيالنا، ولم يتم الرد على رسالتي حتى اليوم؟
حلمُ الدولة بدأ يضيق، ولا داعيَ للضحك على نفسي، لقد وصلتُ هذه المرحلة حين تعبتُ من التبرير لك أمامي، فأنا محاميّك أمام نفسي، وأنا مَن آمن بك سياسياً، لكن أليس العمرُ سلسلةً من خيبات الأمل؟
أتخيّلني قتيلاً، مثل هشام، قتيلاً لا يؤبنه أحد، تقتله فكرةُ الدولة، والإيمان بمعسكرٍ ما فعل إلاّ بتقريب أعداء الدولة نفسهم، لأنني أقودُ سيارتي أعزلَ، مثل هشام، وكنتُ أحمقَ لدرجة لعبي بفم التنّين، في وقتٍ كان كلّ أصدقائك فيه صامتين، لكنني وقفتُ معك آنذاك، لا لأنك صديق، بل لأنك تمثّل الدولة.
دولةٌ ينقذها المالكي من السقوط ليلةَ البوعيثة، وتحمي سعد الأوسي ولا تحمي هشام الهاشمي، دولةٌ فيها موفق الربيعي خبيرٌ صحّي، وعلي وجيه طريدٌ، دولة مستمرّة بإطلاق الرصاص الحيّ، وإخفاء القتلة، ونثر الدخانيات على شباب التحرير، هذه دولةٌ لا تمثّلني بالمرّة، ومع الأسف أنّك على رأسها، كما قلتُ لك، أصدقاؤكَ لهم عقلٌ نقديّ، يُمكن لرجلٍ من جمهورٍ آخر أن يبرّر مذبحة، لكنني لا أجيدُ تبرير هراوة غير قاتلة تسقطُ على مُحاضرٍ مجانيّ، أو صفعة لخرّيج علوم سياسية يبحثُ عن التعيين.
أعلمُ تماماً متاعب حكومتك، الجائحة، الوضع الاقتصادي، أعداؤك الذين لم يخلق الله أقذر وأحطّ وأقل مروءةً منهم، لكنني أعرفُ تماماً الفرز بينك وبين أعدائك، ومع هذا: فإن خيبة أملي كبيرة، كبيرة بقدر الأمل نفسه الذي بنيتُهُ عليك، وعلى طاقمك من أصدقائنا.
الدمُ لا يقبلُ التأويل، والقاتلُ والساكتُ عنه لا يختلفان كثيراً، وأنتَ تعرفني تماماً، تعرفُ أن صديقك “الصغير الكبير” كما تسمّيني منذ نحو عقد، لا يصمتُ أمام الدم، حتى إن سال على يد أخيه، وليس على يد صديقه!
لا أنتظرُ أن أكون جثّة، سأكون قد تحدثتُ حينها، وهذا ما تحدثتُ به، خاب أملي كثيراً بك، يا صديقي، خاب أملي بأصدقائنا، ولا أجيدُ الكذب على نفسي، ولا أعرفُ كيف يُمكن أن أواري سوأةَ جثّة أملي بك، وبما يحدث.
ورغم تمنّياتي باجتياز المهمّة، والأداء الجيّد، والحفاظ على ما تبقى من الدولة – هه – لكنني الآن أكنسُ رماد التمنّي، جالساً في معتزلي، غاسلاً يديّ من كل شيء، بالمناسبة، يقولُ الجواهري – واليوم ميلاده وغداً وفاته -:
وعدتُ مليءَ الصدرِ حقداً وقرحةً
وعادتْ يدي من كلّ ما أمّلتْ صِفرا
تعرفُ تماما أن صديقَكَ ليس بلحّاسٍ لقصع، ولا بباحثٍ عن مغنم، وما كنتُ أرتجي شيئاً شخصياً، لكن هذا الدم الذي سال اليوم، سالَ على صداقتنا، وأحاديثنا في العمارة والتشكيل، وحتى على مواقفكَ الشخصيّة المشرّفة معي، حتى وإن كانتْ رسالةً نصّية، أو مكالمة بدقيقتين..
هناك عراق، بدأ يتخذُ شكل عراق عبد المهدي، وهناك دمٌ على الإسفلت، كما سال بعهد عبد المهدي، وهناك خيبة أمل تتكثّف غيماً كبيراً في روحي، كما تكثّف في عهد عبد المهدي، لكن الفرق أنه تكثّف أكبر، لأنك “مصطفانا”، وما كانت ياءُ النسبة لتنطبق على عبد المهدي بأي شيء.
قطارُ أصدقائكَ طويلٌ، سأفرِغُ مقعداً لغيري، معالي رئيس الوزراء “الصديق السابق” مصطفى الكاظمي: هذا فراقٌ بيني وبينك.

error: Content is protected !!