القسم العشرون:
المرجعية الشيعية النجفية بعد السيستاني
الخيارات في النجف الأشرف بعد السيد السيستاني تبدو في ظاهرها سهلة ومحددة؛ لأنها منحصرة تقريباً في مرجعيات الصف الأول الثلاث الأخرى المتعارفة حوزوياً: السيد محمد سعيد الحكيم والشيخ بشير النجفي و الشيخ اسحق الفياض؛ بل أن الخيار الواقعي شبه المتحقق هو السيد محمد سعيد الحكيم. ولكن السيد الحكيم هو الآخر كبير في السن (مواليد العام 1934= 86 عاماً)، ويعاني من بعض أمراض الشيخوخة المعتادة. والأمر ينطبق على الشيخين النجفي والفياض أيضاً. وفضلاً عن أن المرجعين الأخيرين طاعنين في السن؛ فإن أسباباً أخرى تستبعدهما عن موقع المرجعية العليا؛ حتى في حال رحيل السيدين السيستاني والحكيم؛ أحدها أن العقل الباطن للشيعي العراقي؛ بل غير العراقي أيضاً؛ بات يألف العمامة السوداء التي تذكره بأبناء رسول الله والإمام علي والسيدة الزهراء. وبرغم أنها قضية تفتقد الى الأصل التشريعي والتاريخي؛ لكنها باتت عرفاُ منذ أكثر من قرن وحتى الآن، أي منذ مرجعية السيد إبي الحسن الإصفهاني في العام 1920 وحتى الآن.
ولذلك ينبغي الحديث عن مرحلة ما بعد السيد السيستاني والسيد الحكيم، وليس السيستاني وحسب. وهي مرحلة صعبة ومعقدة؛ بل أصعب من المراحل التاريخية التي تشظت فيها الخيارات؛ كمرحلة ما بعد شيخ الشريعة الإصفهاني، الذي خلفه أربعة مراجع كبار: الشيخ الميرزا النائيني والشيخ ضياء الدين العراقي والشيخ عبد الكريم الحائري والسيد أبو الحسن الإصفهاني، ولم يتفرد الإصفهاني بالمرجعية العليا نهائياً إلّا بعد وفاة العراقي والنائيني والحائري، أو مرحلة ما بعد السيد أبي الحسن الإصفهاني، الذي خلفه السيد حسين البرودجردي والسيد عبد الهادي الشيرازي والسيد محسن الحكيم، ولم تستقر المرجعية العليا نهائيا للسيد الحكيم إلا بعد وفاة البروجردي والشيرازي، أو مرحلة ما بعد السيد الخوئي؛ إذ كان هناك السيد عبد الأعلى السبزواري والشيخ الشهيد علي الغروي والشيخ الشهيد مرتضى البروجردي والسيد حسین بحر العلوم والسيد علي السيستاني، كما برز خلالها السيد الشهيد محمد الصدر والسيد محمد سعيد الحكيم، وفي ايران أيضاً كان الشيخ محمد علي الأراكي والسيد محمد رضا الگلپايگاني يتزعمان مساحات واسعة من المقلدين بين شيعة العالم.
لذلك؛ أجزم أن مرحلة ما بعد السيستاني والحكيم ستكون هي الأصعب؛ لثلاثة أسباب رئيسة:
1- شحة الخيارات، وتحديداً الخيارات التي تستطيع استيعاب الشارع الشيعي العراقي المتحرك، وتمارس الرعاية العامة للنظام الإجتماعي وحركة الدولة؛ بالنظر لما بات يترتب على مرجع النجف من واجبات تجاه النظام العام بعد العام 2003؛ إذ أن عراق ماقبل العام 2003 يختلف عن عراق مابعد العام 2003، وهو اختلاف ينعكس على واجبات المرجعية وأدائها، ويفعل تلقائياً ولايتها على الحسبة العامة والنظام المجتمعي العام بشكل واسع. وبالتالي؛ فإن المعضلة ليست في موضوعة المرجع الأعلم؛ بل في المرجع الأكفأ في إدارة الشأن العام، والذي يحظى بالمقبولية العامة.
2- بروز الخطوط الخاصة بقوة داخل الحوزة، والتي لا تستطيع الآن تحدي مرجعيتي السيد السيستاني والسيد الحكيم في حياتهما؛ لكنها تنتظر رحيلهما؛ ليكون لها حضورها القوي والفاعل في الشأن العام. وهذا يعني ظهور محاور جادة من الخلافات والتعارضات على المستويين الخاص والعام. وهنا تتضاعف خطورة شحة الخيارات في الخط المرجعي العام، وخاصة إذا أصبحت هذه المحاور محط تجاذب الأجندات السياسية وأجندات الخصوم المذهبيين.
3- تزامن مرحلة ما بعد السيستاني والحكيم ومراجع الصف الأول في النجف، مع مرحلة ما بعد الخامنئي ومكارم الشيرازي ومراجع الصف الأول في قم، وجميعم تزيد أعمارهم على الثمانين عاماُ. فقد يكون لوجود المرجعيات الكبيرة النافذة على المستوى الشيعي العالمي؛ دوراً في الدعم المتبادل والتعاون. لكن غياب مرجعيات قم المؤثرة معنوياً سيعمق المشكلة في النجف؛ بل في أغلب بلدان الحضور الشيعي.
الذي لا شك فيه أن مرجع النجف الأعلى بعد السيستاني والحكيم سيكون من داخل النجف؛ لأسباب كثيرة؛ بعضها يتعلق بالمسار التاريخي لمنظومة المرجعية الشيعية ومركزية النجف التقليدية في هذه المنظومة، والآخر يتعلق بالواقع الإجتماعي والسياسي الشيعي العراقي، والثالث يتعلق بوجود خيارات مرجعية مقبولة داخل النجف، وإن كانت شحيحة وصعبة. ولذلك؛ فإن احتمال رجوع حوزة النجف الى مرجعية من خارجها أمر مستبعد؛ بصرف النظر عن مدخلية شرط الأعلمية وتوافر الشرائط الموضوعية الأخرى. ولا أتحدث هنا عن موضوع التقليد وحسب؛ بل عن المرجع الأعلى المتصدي للشأن العام؛ لأن هناك كثيراً من العراقيين في داخل العراق وخارجه يقلدون مراجع عراقيين وإيرانيين يقيمون في إيران.
هناك ثلاثة مشاهد نجفية مفترضة لمرحلة ما بعد السيستاني والحكيم؛ ربما تدخل في دائرة الإحتمالات، وأطرحها هنا بصرف النظر عن نسبة الإحتمال:
1- مشهد تسنم أحد مراجع الصف الثاني في النجف موقع المرجعية العليا، وهو مشهد لا يحظى بنسبة يعتد بها من القبول؛ لا سيما أن عدد هؤلاء أقل من أصابع اليد الواحدة؛ كالسيد علاء الدين الغريفي. ولذلك ينبغي إلغاء مشهد مراجع الصف الثاني، بعد أن إلغاء مشهد مراجع الصف الأول.
2- مشهد قبول النجف بأحد المراجع النجفيين المقيمين في قم (خريجو حوزة النجف)، أمثال الشيخ الوحيد الخراساني والسيد كاظم الحائري والسيد محمد صادق الروحاني. وهذا المشهد لا حظوظ له أيضاً؛ لأن المراجع النجفيين في قم طاعنين في السن ومرضى، ولن يستطيعوا العودة الى النجف. وبالتالي؛ يلغى هذا المشهد أيضاً.
3- مشهد بروز أحد الفقهاء من أساتذة البحث الخارج المرموقين في النجف، وهم كثر؛ كالشيخ محمد هادي آل راضي والشيخ باقر الإيرواني والشيخ حسن الجواهري والشيخ محمد السند والسيد محمد رضا السيستاني وغيرهم. ولا شك أن كثيراً من هؤلاء سيبادرون الى طباعة رسائلهم العملية ويطرحون أنفسهم مراجع للتقليد بعد مرحلة السيستاني والحكيم، ولكن المشكلة تكمن في كيفية وصولهم الى موقع المرجعية العليا مباشرة، دون المرور بمرحلتي مرجعية الصف الثاني ومرجعية الصف الأول، وهو ما أسميناه في دراستنا بـ ((السياقات التقليدية للتدرج المرجعي))، والتي يتجاوزها بعض علماء الدين وهو يتعجل بلوغ المرجعية.
وبرغم العقبات المحتملة التي تقف امام المشهد الثالث؛ لكنه يبقى المشهد الأقرب الى التحقق؛ لا سيما إذا كان الفقيه المرشح يعتمر العمامة السوداء ويحظى بدعم صنّاع الرأي العام الحوزوي. وستكون الجهة الأهم التي تلعب دوراً أساسياً في حسم المشهد؛ هي مرجعية السيد السيستاني نفسه، والتي يستمع الى رأيها أغلب أساتذة البحث الخارج والسطوح العالية في النجف، والذين يشكلون شبكة حقيقية لأهل الخبرة. وبما أن بيت السيد السيستاني في النجف ومكتبه في قم؛ ركنان أساسيان في مرجعيته؛ فإن إشارة المرجع الأعلى السيد السيستاني ودعم بيته ومكتبه؛ ستكون مفصلية في تحديد مرجع النجف لمرحلة ما بعد السيد السيستاني والسيد الحكيم. صحيح أن مرجعية السيد السيستاني لن تتجاوز مرجعية السيد محمد سعيد الحكيم من بعدها، ولا يمكن لحوزة النجف ذلك أيضاً؛ إلّا أن الجميع يدرك أن السيد الحكيم ـ كما ذكرنا سابقاً ـ طاعن في السن أيضاً، ولذلك؛ فإن التحضير يتركز على مرحلة ما بعد الحكيم.
و تبعاً للأعراف والسياقات الحوزوية، وأساليب صناعة الرأي العام الحوزوي؛ فإن أغلب أصحاب الرسائل العملية الحاليين في النجف وكربلاء وقم؛ ممن يطرحون أنفسهم مراجع تقليد خارج السياقات غالباً؛ سواء كانوا عراقيين أو إيرانيين؛ هم خارج المنافسة على موقع المرجعية العليا أو مرجعيات الصف الأول والثاني؛ لأسباب معقدة كثيرة.
(المقال القادم: المرجعية الشيعية في قم بعد الخامنئي)
د. علي المؤمن