ويسألونك عن أور
تقع مدينة أور في جنوبي العراق، قريباً من نهر الفرات ومدينة الناصرية، على مسافة 350 كم من بغداد. إسماها السومريون، وهم السكّان الأوائل للسهل الرسوبي، بإسم ” الأرض الأم أو البيدر” و أطلقوا عليها “أور” صفة لها وتعني “مدينة”. كان يقطنها شعب سومر “ذوو الرؤوس السود” في “بلاد سادة القصب”، غلّتها الشعير، غذائها السمك والتمر، شقيق روحها الفرات، سكّانها صيادو سمك وصاعدو نخيل، يكتبون الشعر نهاراً ويغنّونه ليلاً، نسائها كاهنات وموسيقيّات.
بيت الألواح
يُلقي هذا المقال الضوءَ على بيت ألواحٍ سومري تمَّ اكتشافه خلال الحفريات الآثارية في مدينة أور في بداية عام (2017م)، وقد احتوى هذا البيت، وبيوتا أخرى، ألواحًا ومدوّناتٍ ونصوصاً كثيرة، تمتدُّ الفترة الزمنية لهذه النصوص المكتشفة من العصر الأكدي (القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد) إلى منتصف العصر البابلي القديم (القرن الثامن عشر قبل الميلاد)، كاشفةً لخمسةِ قرونٍ من تاريخ العرّاق المُدوَّن.
في ربيع (2017م) كنتُ المديرَ الحقلي لبعثةٍ مشتركة (عراقية – أمريكية) من جامعة نيويورك في ستوني بروك للتنقيب في الجزء الشرقي والجنوبي من مدينة أور الأثرية، فكان هذا الموسم الثاني للتنقيب بعد موسم خريف (2015م). نّقبت المدينة في يداية القرن العشرين من قبل المتحف البريطاني وأُكتشف فيها تُحف وكنوز في مقبرتها الملكية التي تعود الى القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، فضلاً عن آلاف النصوص المدوّنة بالخط المسماري وباللغتين السومرية والأكدية. كما أُكتشف فيها مجموعة من المعابد يتوسطّها برج مدرّج (زقّورة) يمثل معبد لعبادة إله القمر، إله المدينة الرئيس، ومراكز إدارية وحارات سكنية ومقابر.
وقد تركّزَ العملُ في ثلاث نقاط مكانية، تقع الأولى منها في قلبِ الحي السكني، أما الثانية فكانت في حافَّةِ الحي، والنقطة الثالثة والأخيرة تقع قريبةً من سور المدينة وبوابتها الجنوبية، وقد تمَّ اختيار النقاط الثلاث بعيداً عن مركز المدينة، معقل النخب السياسية والدينية والاجتماعية؛ في محاولة للبحث عن هوامش المدينة المسكوتِ عنها، هذه الهوامش زوَّدتنا بمعلوماتٍ مهمةٍ عن الحياة اليومية للأفراد العاديين، بعيدا عن حياة قاطني المعبد والقصر، كانت أسئلة البحثِ تَتمحور حول تساؤلٍ مهم تفرعّت منه أسئلة أخرى، ومفادُ هذا التساؤل: هل حدثَ تغيّر في الحياة الاجتماعية والاقتصادية حين تحولّت أور من عاصمةٍ مهمةٍ للعراق في نهاية الألف الثالث إلى مدينة اعتيادية في بداية الألف الثاني قبل الميلاد؟
هنا أظهرت الحفريات نتائجَ قيمةٍ في مجالاتٍ عديدة، ومنها (العمارة والسكن وطُرق الدفن والفنون)، وهو ما كشفَت عنه الأدوات واللُقى والقطع الأثرية المستخرجة في تلك البقعة من أور، وقد تمَّ استخدامُ وسائل ووسائط حديثة في دعم الحفريات وتحليل النتائج وفي اختيار أماكن التنقيب، ومنها الصور الجوية عاليةُ الدقة والمسح المغناطيسي والجيوفيزيائي، وبالإضافة إلى جهاز المسح الليزري، وقد وُظِّفت مناهج وعلوم دقيقة لفهم وتفسير الظواهر والمواد المكتشفة، كان بينها علم النباتات القديمة (أثنو-نباتي)، وعلم عِظام الحيوانات والطيور القديمة (زوو- آركيولوجي)، وعلم نظم المعلومات الجغرافية، وفحص النظائر المشعة للأسنان، وعلم جيومورفولوجي التربة، وعلم الأثنوغرافي في الدراسات الاجتماعية، وجميعها علومٌ مهمةٌ ومكملةٌ لعلمِ الآثار.
مدوًنةُ الطِّين
كان الاكتشافُ الأبرز هو النصوصُ المُدوّنةُ على ألواحٍ ورُقٌمٍ طينية بالخط المسماري، وباللغتين السومرية والأكدية، فلم يخلُ بيتٌ من البيوت المكتشفة في الحفريات من وجود نصوصٍ مدوّنةٍ ومُوزّعة في مجالاتٍ عديدةٍ منها اقتصادية تتضمن وصولات بمواد وبضائع وحسابات مخازن، وقانونية تردُ بصيغة عقود بيع وشراء وعقود إيجار، فضلاً عن رسائلَ ومحادثاتٍ شخصية، وأيضاً نصوص أدبية مكتوبة بلغة عالية وتحمل صوراً شعرية ذات فنية عالية، منها على سبيل المثال (مرثية مدينة أور وبلاد سومر).
بيتُ الألواح
من الاكتشافات المهمة العثورُ على ما يمكن تسميته بـ”مدرسة” أو (أيه- دوببّا E-Dub-Ba، بيت الألواح) في السومرية، وهي بناية صغيرة تقع وسط حي سكني، يتمُّ فيها تعليم القراءة والكتابة ليس فقط للأطفال بل للبالغين أيضاً، ضمّت البناية عدداً من الأقراص الطينية دائرية الشكل، ما يصطلح عليه بالأقراص المدرسيّة، قسمٌ منها لم تكتمل كتابته، وآخرَ مقسَّمٌ بخطوط كانت بمثابة حقول للكتابة، في حين ضمّ قسمٌ آخر من الأقراص نصاً قام معلِّمٌ بكتابته على الوجه الأول للقرص، وعلى الوجه الآخر النص نفسه ولكن بخطِّ الطالب، وهو ما يوضحه الفرق البيِّن بينَ خط المُعلِّم والمتعلِّم، والملاحظ أنَّ العبارةَ المنقوشة على القرص التعليمي هي: (إذا أردت أن تحظى برضا إلهك، فهَبْ/ قدِّم له أفضل ما لديك). كانت هناك مصاطبٌ من الآجرِ لجلوس المتعلِّمين، وكتل من طين الصلصال النقي مُعَدٌّ لصنع الألواح، وجرار كبيرة لخزن المياه وعدد من الأقراص التعليمية، فضلاً عن معجم مصطلحات (سومري-أكدي)، أمَّا عن أقلام الكتابة فكانت مصنوعةً من عظام الأسماك والبرونز وخشب الأبنوس المستورد من الهند، وقد تكرّر وجود بيت الألواح في نقطتي تنقيب من النقاط الثلاث مع بعض الاختلاف في المكوّنات، لذلك فإنَّ وجود بيت الألواح (المدرسة)، ووجود ألواح مدوّنة في جميع البيوت المكتشفة يعدُّ مؤشرا مهمًّا لشيوع التعليم في مدينة أور، وإنَّ إمكانية التعلُّم كانت متاحة للصغار والكبار، للذكور والإناث، الأغنياء والفقراء على حدٍ سواء.
في بعض القبور التي هي عبارةٌ عن توابيتَ مصنوعةٍ من الفخار بهيئة أوعيةٍ وجرارٍ كبيرة، تمَّ العثورُ على ألواحٍ مدوَّنةٍ مدفونة مع الرُّفاة، قسمٌ منها يشير إلى شخصية الميِّت ومهنته، ومن بينها قبر حاكم مدينة أور المعيّن من قبل الملك البابلي “سامسو- إيلونا” ابن حمورابي الذي اجتاح مدينة أور ووضع حاكماً عسكرياً عليها، كان الحاكم واسمه “سامو-أبوم” يتبادل الرسائل مع بعض الأشخاص والحكّام في باقي المدن، هذه الرسائل التي وجدت في قبره تُسلّط الضوء على الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أور في نهاية القرن الثامن عشر قبل الميلاد، أمَّا قبور العوام فلم تخلُ هي الأخرى من المدوّنات، ومنها قبرٌ لشخصٍ يَصنعُ شباك الصيد ويقوم ببيعها أو تأجيرها، مذكورٌ فيها اسمه وصنعته وعقود بيع وتأجير الشباك للصيادين وكميات السمك الذي تمَّ اصطياده، والملاحظ أنَّ بَيتَي الرجلين، ونقصدُ (الحاكم وصانع شباك الصيد) يقعان في الزقاق نفسه.
إنَّ مساحةَ بيوت السكن المتساوية، حيث بيوت الفقراء والأغنياء في نفس الحارة السكنية، ووجود نصوص مدوّنة في البيوت، وتساوي الناس في الحصول على المواد الخام والأدوات، يمكن أن يؤشر إلى انعدام التمايز الطبقي في هذا المحيط الاجتماعي إلى حدٍّ ما.
ناسخ الألواح
بيت الألواح المُكتشف كان يديره شخصٌ اسمه “سين- ندا”، وُجدَ اسمه في أحد الألواح بصفته خازناً للمعبد، لكنَّهُ ما أن ينجز عمله في المعبد حتى يعود إلى البيت ويبدأ بتعليم الناس القراءة والكتابة، صغاراً وكباراً، وقد كان المُعلّم باللغة السومرية يسمَّى (دوب- سار Dub-Sar)، أي ناسخ الألواح، أما الكاتب المحترف فيدعى (دوب- سار- جال،Dub-Sar-Gal )، أي ناسخ الألواح الكبير أو العظيم، وذلك بأن يتم إضافة رمز آلة صيد الأسماك “الفالة” (جال (Gal إلى الاسم؛ لأن آلة الصيد هذه لها منزلة ومكانة عظيمة في حياة الناس في جنوب بلاد وادي الرافدين.
مرثية مدينة أور
عثر على هذه النسخة من المرثية قريباً من بيت الألواح، كانت منقوشة على لوح من الطين غير المشوي يضمُّ ستة وثلاثين سطراً، ثمانية عشر سطراً منها على وجه اللوح ومثلها على القفا، ولكن القفا متضرر.
يصف النص ما جرى لمدينة أور في سنة (2006) عندما اجتاحتها جيوش الآموريين والعيلاميين، وبعد أن فرض حكّام لارسا وإيسن الآموريين في وسط السهل الرسوبي حصاراً قاسياً على أور، وقطعوا عنها إمدادات الغلَّة والماشية وسدّوا عنها مجاري المياه.
في بداية المرثية يعتقد أهل أور أن الأعداء هاجموا المدينة بعد أن غادرتها الآلهة غير راضية عن أهلها الذين قصّروا في الطاعة والولاء وتقديم النذور والقرابين، وبعد سرد تفاصيل ما حدث من مأساة وخراب، يتضرّع أهل أور إلى الآلهة أن لا تغادر المدينة وبلاد سومر مرة أخرى؛ كي يحلَّ السلام على هذه البلاد.
وجهُ القمرِ العالي
هو واحدٌ من الرُقُمِ المكتشفة في النقطة الثالثة، وقد وُجِدَ في أحد البيوت المجاورة لسور المدينة الغربي، وهو عبارة عن رسالةٍ من زوجٍ إلى زوجته، وكان مسافراً للتجارة وبعث بهدايا لزوجته مع أحد العائدين إلى أور، ويبدو من قائمة الهدايا المثبتة على الرقيم، ومن بينها حجر اللازورد الثمين، أنَّ التاجر كان مسافراً إلى أفغانستان أو شمال شرقي إيران، وقد كان الرقيمُ مغلّفاً بطبقة من الطين ومختوماً بختم التاجر، وما يهمُّ في الأمر أن النص يمتلكُ كثافةً لغوية وصوراً شعرية غاية في العذوبة إذ يخاطب زوجته في خاتمته بالقول: “سأعود إلى أور لأرى وجهَ القمرِ العالي”. ما يمكن استنتاجه من النص أن الزوج مرهف الحس ويكتب بصيغ شعرية هي أقرب إلى قصيدة النثر، وأنه يقدّرُ زوجته، وبما يشبه اليقين فإنَّ الزوجة متعلمة كذلك؛ إذ لا يمكن لنص كهذا أن يُقرأ من قبل شخص آخر غير الزوجة، فالنص دليلُ آخر على أنَّ سكَّانَ أور قد وصلوا إلى أقاليم بعيدة؛ لغرض التجارة وجلب الأحجار الثمينة والمعادن النادرة التي لا توجد في العراق.
أعطِنِي حُرِّيتي
أحد النصوص القانونية، وهو عبارة عن وثيقة إنهاء عقد سابق بين المعبد وأحد الأشخاص الذين يعملونَ في الحقول الخاصة بالمعبد (المؤسسة الرسمية)، يتضمن الاتفاق المُبرم أن يدفع الشخص (60) شيقلاً من الفضة إلى خازنِ المعبدِ مُقابلَ كسب حُرّيته من العمل في حقول المعبد، والعودة لوضعه الطبيعي فلاحاً في حقلِه، وعلى العكس من نظام الرِق والعبودية والخدمة في البيوت في العالم القديم، كان نظام العمل في العراق القديم يسمح للعاملين ممارستهم مهنتهم في الحقول والمزارع، لا أن يكونوا خدماً في البيوت، وهو ما يوفّر لهم مكانةً اجتماعيةً جيِّدة. يبدأ النص بإنهاء العقد السابق وإبرام عقد جديد يتضمّن عودة الرجل إلى عمله السابق، مع ذكر المبلغ المدفوع، ثمَّ أسماء الشهود وتاريخ العقد بصيغة الآتية: (كُتب في اليوم الثاني عشر من الشهر الرابع “شهر الحصاد” لسنةِ “36” من حكم حمورابي)، والتي توافق سنة 1756 ق.م.
قناعُ خومبابا: بدايةٌ مُحتملة لمسرحٍ قديم
ومن بين المكتشفات في حفريات أور قناعٌ من الفخار يمثِّل وجهَ خومبابا، حارسُ غابةِ الأرْز في ملحمةِ جلجامش، والذي حاول دون نجاحٍ صَدَّ جلجامش ورفيقه أنكيدو من دخول الغابة، القناع مُقعَّرٌ ومُجوَّف من الداخل بحيث يُمكن أن يَستوعِبَ وجهَ آدمي، ومن المحتمل أن القناع وعدد من الأقنعة المماثلة كانت تُستخدم في الشعائر والطقوس الدينية التي تمثِّلُ وتجسِّدُ مَلحمةَ جلجامش والشخوص الرئيسة فيها ومنها شخصية خومبابا؛ وذلك في محاولة لإعادة تمثيل تلك الملحمة، وهذا الأمر ربّما يؤشر إلى بدايةِ مسرحٍ بدائي قديم في العراق قِدَمَ ملحمة جلجامش، فبطل الملحمة (جلجامش) هو الحاكم الخامس في سلالة الوركاء الأولى التي ظهرت في المشهد السياسي بحدود القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، أمّا الملحمة فقد رُويت شفاهاً لمدة طويلة قبل أن تدوّن بحدود القرن السابع عشر ق.م، وهو ما يعني أن الملحمة جرى تمثيلها في بداية الألف الثالث ق.م، وهو ما يمكن اعتباره تأريخًا مقترحًا لظهور المسرح في العراق، على الأقل مسرح الشعائر والطقوس.
الكاتب : د. عبد الأمير الحمداني كاتب وباحث في الآثار والتاريخ وزير الثقافة العراقي سابقا المنحوتة المرفقة هي :قناع من الفخار يمثل وجه خومبابا، الحارس الأسطوري لغابة الأرز في ملحمة جلجامش