عشاء الزوار…إيليا إمامي

ثقافة وفن
27 مايو 2020wait... مشاهدة
عشاء الزوار…إيليا إمامي

كتب إيليا إمامي ||

صورة من روايتي ( الأسبوع الأخير ) التي لاتزال قيد المسودات .. وأنا المفتقر الى دعائكم لإنجازها .
•••••••••••••••••••••••••••
بدون مناسبة .. أو شيئ يذكرني به !!
وجه ذلك الرجل لايفارق مخيلتي اليوم .
لا أعرف حتى إسمه .. وأين هو .. وماذا جرى عليه .. ولكني منذ الصباح أرى صورته ملتصقة بكل شيئ تقع عيني عليه .. وأراها على وجهك الذي يبدو لامعاً على ضوء أجهزة التنفس الاصطناعي .
أنت تتذكره بالتأكيد .. ذاك الرجل الذي استضافنا في طريق المشاية .. وكانت أقدامنا تقطر دماً من كثرة ملاحقة البعثيين لموكبنا .
كان لايملك من هذه الدنيا سوى بيت من الطين وبعض الأغنام
فاستقبلنا وغسل أقدامنا وذبح لنا شاة للعشاء .
همست إلينا أن لا نفرط في استخدام الماء .. لأنهم ياتون به على ظهر دابة من مكان بعيد .
وقع صوت قصيدة ( يحسين بضمايرنه ) كان يتماهى مع كلمات ( أخ ) التي تصدر من الأصدقاء .. عندما يخرج أحدهم الشوك من أقدام الآخر .. أو يضمد جراحه .
والصوت يأتي من ( مسجل كاسيت ) الذي يضعه الرجل على الشباك الخارجي .. ولم يكن في البيت شيئ آخر يدل أننا في القرن العشرين .
أما رائحة ماء اللحم .. وانتظار العشاء .. فكانت الشيئ الوحيد الذي يغلب رغبتنا في النوم .. بعد يوم حافل بالمطاردات .. والرصاص الذي يتراقص تحت أقدامنا.
وشق ذلك الهدوء المشاعري صوت شاب من أولاد ( المعزب ) وهو يصرخ ( إجت مسلحة .. إجت مسلحة )
هرب الرجل بنا وبعائلته جميعاً .. الى تلة ترابية بعيدة عن البيت .. تاركاً ورائه كل ما يملك .. كمن طلق الدنيا في لحظة وأصبح لاينتمي لها بشيئ .
أحاط البعثيون بالبيت .. أحدهم أطلق رشقة من الرصاص على المسجل الصوتي فأسكته .
صادروا القطيع في سيارتهم .. وأضرموا النار في البيت الصغير وارتفعت ألسنة اللهب من سقفه القصب .
كنا نختبئ خلف التلة .. والرجل يراقب ما يصنع البعثيون ببيته .. وكيف يسلبون كل حلاله .. أما أنا فكنت أراقبه هو .. أتمعن في وجهه بعناية .. وأقرأ من خلال ملامحه التي كشفها ضوء النار الخافت .. قصة لايعرفها المنطق .. ولا تستوعبها الرياضيات .
ذهبت بعيداً مع عيونه اللامعة على ضوء النار .. وهو بين مبتسم ومتأثر .. يتمتم بكلمات لم أميزها .. ولكني عرفت من كان يخاطب .
ولا أدري لماذا شعرت أنه ينتظر هذه اللحظة .. ليوقع عقداً جديداً مع سيد الشهداء .
ليتك للحظات .. تترك هذه الاستراحة التي يسمونها غيبوبة .. لأستذكر معك يا صديقي .. تلك الضحكة التي أطلقها الرجل عندما اشتعل البيت كله .. وقال : طيح الله حظكم هذا الكدرتو عليه؟
هل تتذكر كيف ضحكت أنت ودموعك تملأ وجهك .. كما ملأته الدماء الآن ؟
هل تتذكر قولك .. أنك خجلت من النظر لزوجته لترى كيف قابلت الموقف .. ولكنها كانت قطعة من السواد الكامن في الظلام .. ملتفة بعبائتها وساكنة بلا حراك .
معزبنا .. لم يسمح لدموعه أن تكون حاضرة في المشهد .. إلا في لحظة واحدة .. فقد أطلقها وقال بأسف : لا لا .. سود الله وجوهكم .
وذلك عندما قلبوا قدر العشاء الذي كانت فيه الذبيحة .. وأراقوه على التراب .. وعرف أن زواره سيبقون بلاعشاء !
أفق يا أخي .. فما أكثر قصصنا مع الحسين .. والكثير منها لم يرو بعد .
ليس من العدل أن تتركني .. وتذهب وحدك إليه .
لاحاجة لأن تتركني .. خاطبه من هنا وأنت ساجد في حرم الشهادة .. قل له بقينا أوفياء لك .. كما يقال بالحلوة والمرة .. بالممنوع والحرية .. ما تركناك ولا طلبنا غيرك بدلا .. كما أنك لم تتركنا ولم تطلب غيرنا بدلا .
كم نصحك ابن عباس وغيره أن لاتذهب الى العراق فإنهم أهل غدر .. وخالفت الجميع وجئت إلينا .. وهذه ألف وأربعمائة سنة إلا قليل قد مرت بكل شجونها .
فهل كنا عند حسن ظنك ؟ وهل وفينا لك ؟ وهل تريد المزيد من الدماء والتضحيات لنبذله لك ؟ لأننا حسمنا أمرنا منذ قرون .. وقضينا لأولادنا وأحفادنا .. وجفت صحفنا عن البداء .. ( لاحياة لنا في العراق إلا بك ياحسين ) .

error: Content is protected !!